شعر السياب

7:02 م اريج الامل 0 التعليقات

عيناكِ غابتا نخيلٍ


عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ 

أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر

كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء 

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف 

والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء 

فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء

ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء

كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !

كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...

وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم 

ودغدغت صمت العصافير على الشجر

أنشودةُ المطر ...

مطر ...

مطر ...

مطر ...

تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ

تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .

كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ

فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال

قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "

لا بدَّ أن تعودْ

وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ

في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ

تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛

كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك

ويلعن المياه والقَدَر

وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .

مطر ..

مطر ..

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،

كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .

أَصيح بالخليج : " يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! "

فيرجعُ الصّدى

كأنّه النشيجْ :

" يا خليج

يا واهب المحار والردى .. "

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،

حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ .

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر

وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،

عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :

" مطر ...

مطر ...

مطر ...

وفي العراق جوعْ

وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ

لتشبع الغربان والجراد

وتطحن الشّوان والحجر

رحىً تدور في الحقول ... حولها بشرْ

مطر ...

مطر ...

مطر ...

وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ

ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر ...

مطر ...

مطر ...

ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء

تغيمُ في الشتاء

ويهطل المطر ،

وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .

مطر ...

مطر ...

مطر ...

في كل قطرة من المطر

حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .

وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة

وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد

أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة !

مطر ...

مطر ...

مطر ...

سيُعشبُ العراق بالمطر ... "

أصيح بالخليج : " يا خليج ..

يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "

فيرجع الصدى

كأنَّه النشيج :

" يا خليج

يا واهب المحار والردى . "

وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،

على الرمال ، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار

وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق

من المهاجرين ظلّ يشرب الردى

من لجَّة الخليج والقرار ،

وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ

من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .

وأسمع الصدى

يرنّ في الخليج

" مطر ..

مطر ..

مطر ..

في كلّ قطرة من المطرْ

حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .

وكلّ دمعة من الجياع والعراة

وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد

أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . "

ويهطل المطرْ ..



الباب ما قرعته غير الريح

الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق

الباب ما قرعته كفك

أين كفك و الطريق

ناء بحار بيننا مدن صحارى من ظلام

الريح تحمل لي صدى القبلات منها كالحريق

من نخلة يعدو إلى أخرى و يزهو في الغمام

الباب ما قرعته غير الريح

آه لعل روحا في الرياح

هامت تمر على المرافيء أو محطات القطار

لتسائل الغرباء عني عن غريب أمس راح

يمشي على قدمين و هو اليوم يزحف في انكسار

هي روح أمي هزها الحب العميق

حب الأمومة فهي تبكي

آه يا ولدي البعيد عن الديار

ويلاه كيف تعود وحدك لا دليل و لا رفيق

أماه ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار

لا باب فيه لكي أدق و لا نوافذ في الجدار

كيف انطلقت على طريق لا يعود السائرون

من ظلمة صفراء فيه كأنها غسق البحار

كيف انطلقت بلا وداع فالصغار يولولون

يتراكضنون على الطريق و يفزعون فيرجعون

و يسائلون الليل عنك و هم لعودك في انتظار

الباب تقرعه الرياح لعل روحا منك زار

هذا الغريب هو ابنك السهران يحرقه الحنين

أماه ليتك ترجعين

شبحا و كيف أخاف منه و ما امحت رغم السنين

قسمات وجهك من خيالي

أين أنت أتسمعين

صرخات قلبي و هو يذبحه الحنين إلى العراق

الباب تقرعه الرياح تهب من أبد الفراق

من ليالي السهاد

1- ليلة في لندن

كما ينسل نور خائف من فرجة الباب

إلى الظلماء في غرفة

سمعت هتافه المجروح يعبر نحوي الشرفه

ليرفع من سماوة لندن الليل المطل بلونه الكابي

على الطرقات ترقد في دثار الثلج ملتفه



و أمس سمعت في إيران صوت الديك في الفجر

و من أفق المنائر في الكويت وزرقه البحر

أهاب فرش جفني بالنعاس ( رنين أكواب

بماء البصرة الرقراق تملأ ثم تسقيني )

نداء راح ينثره المؤذن أطفيء الفانوس رف ضياؤه رفه

وبعثره الظلام

و ليلي الأواه في بيروت يحييني

لأبصر فيه وجه الموت راح يذيبه نبع من اللهفه

تدفق من فؤاد البلبل المسكوب بين غصون لبلاب

ليال من عذاب من سنام لست أنساها

غريبا كنت حتى حين أحلم لست في جيكور

و لا بغداد أمشي في صحارى قلبي المسعور

يريد الماء فيها ماء أين الماء و هي تريه أفواها

على آفاقها الربداء ظمآى تشرب الديجور

فلا تروى أأقصى العمر في صحراء في ليل من العطش

أفتش عن عيون الماء عن إشراقه الغبش

كأعمى نال منه السكر صاح ورفرفت كفاه بين مساند الماخور

ليبحث عن رفيق أين جاري أين داري أين أواها

أميرتي التي كانت تناولني كؤوس النور

فيبصر قلبي الدنيا و يلقاها

كأن الصبح أشرق في العراق و تعبر الرؤيا

بحارا بي و تطوي ألف درب في الدجى تاها

تراجع عالم و أطل ثان عالم يحيا

على الأقمار تولد ثم تكمل ثم تندثر

و ما لبس الجديد بغير يوم العيد يدخر

ويجمع ثم ينفق ثم يضحك و هو يفتخر

بأن الله يرزق حين يرزق هكذا الدنيا

شتاء ثم صيف ليس في جيكور محتكر

و لا فيها مصارف أو جرائد ليل كوريا

يرى شفقا من النيرا

فالنيران فيها حين تستعر

تضيء لحى الشيوخ يحدثون و أعين النسوه

تحدق في الطعام و ترقب الأطفال في نشوة

أعدني يا إله الشرق و الصحراء و النخل

إلى أيامي الحلوة

إلى داري إلى غيلان ألثمه إلى أهلي



هدير البحر
هدير البحر يفتل من دمائي من شراييني

حبال سفينة بيضاء ينعس فوقها القمر

و يرعش ظلّها السحر

و من شباكي المفتوح تهمس بي و تأتيني

سماء الصيف خلّف طيفه في صحوها المطر

و نحن نسير و الدنيا تسير و تقرع الأبواب

فتوقظ من رؤاه القلب ذاك عدوك الزمن

تدور رحاه كم ستظلّ تخفق ؟ ها هم الأصحاب

تراب منه تمتلئ الدروب و تشرب الدمن

يودّ القلب لو حطمته لو حطمت خفقاته شفتيك

و الكتفين و الصدرا

و لو ذرّتك من زفراتي الحرى

رياح الوجد و الحرمان و الهفي على عينيك

ليتهما تمران

بدمع أو بإشفاق على صحراء حرماني

لينبت في مداها الزهر ليتهما تمرّان

بما نسج التأمل من غيوم فيهما حيرى

بما نسج التفرد من نجوم فيهما سكرى

على عمري الذي عراه من زهراته الداء

يود القلب لو حطمته لو حطمت خفقاته شفتيك

و الكتفين و الصدرا

ولو عرّاك لو ذرّاك لو أكلتك أشواقي

و لو أصبحت خفقا أو دما فيه أو سرّا

فإن أحببتك الحب الذي أقسى من الموت

و أعنف من لظى البركان و الحب الذي يأتي

إليّ كأنّ نفخ الصور فيه فكل ذر الميتين دم و أحياء

فذاك لأنك النور الذي عرى دجى الأعمى

و أنت صباي عاد إليّ أختا عاد أو أمّا

و أنت حبيبتي أفديك أفدي خفق جفنيك

و ما نفضا من السحب

وأفدي خفق نهديك

على قلبي
 

0 التعليقات: